فصل: قال أبو حيان في الآيات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



و{حتى} من قوله: {حتى إذا استيأس الرسل} ابتدائية، وهي عاطفة جملة: {إذا استيأس الرسل} على جملة: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالًا نوحي إليهم} باعتبار أنها حجة على المكذبين، فتقدير المعنى: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالًا يوحى إليهم فكذبهم المرسل إليهم واستمروا على التكذيب حتى إذا استيئس الرسل إلى آخره، فإن: {إذا} اسم زمان مضمن معنى الشرط فهو يلزم الإضافة إلى جملة تبين الزمان، وجملة: {استيأس} مضاف إليها: {إذا}، وجملة: {جاءهم نصرنا} جواب: {إذا} لأن هذا الترتيب في المعنى هو المقصود من جلب: {إذا} في مثل هذا التركيب.
والمراد بالرسل عليهم السلام غير المراد بـ: {رجالا}، فالتعريف في الرسل عليهم السلام تعريف العهد الذَكريّ وهو من الإظهار في مقام الإضمار لإعطاء الكلام استقلالًا بالدلالة اهتمامًا بالجملة.
وآذن حرف الغاية بمعنى محذوف دل عليه جملة: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا} بما قصد بها من معنى قصد الإسوة بسلفه من الرسل عليهم السلام.
والمعنى: فدام تكذيبهم وإعراضهم وتأخر تحقيق ما أنذرُوهم به من العذاب حتى اطمأنوا بالسلامة وسخروا بالرسل وأيس الرسل عليهم السلام من إيمان قَومهم.
و{استيأس} مبالغة في يئس، كما تقدم آنفًا في قوله: {ولا تيأسوا من روح الله} [سورة يوسف: 87].
وتقدم أيضًا قراءة البزي بخلاف عنه بتقديم الهمزة على الياء.
فهذه أربع كلمات في هذه السورة خالف فيها البزي رواية عنه.
وفي صحيح البخاري عن عروة أنه سأل عائشة رضي الله عنها: أكُذِبوا أم كُذّبوا أي بالخفيف أم بالشدّ؛ قالت: كذّبوا أي بالشد قال: فقد استيقنوا أن قومهم كذّبوهم فما هو بالظن فهي: {قد كذبوا} أي بالتخفيف، قالت: معاذ الله لم يكن الرسل عليهم السلام تظن ذلك بربها وإنما هم أتباع الذين آمنوا وصدقوا فطال عليهم البلاء واستأخر النصر حتى إذا استيأس الرسل عليهم السلام من إيمان من كذبهم من قومهم، وظنت الرسل عليهم السلام أن أتباعهم مُكذّبوهم. اهـ.
وهذا الكلام من عائشة رضي الله عنها رأي لها في التفسير وإنكارها أن تكون: {كذبوا} مخففة إنكار يستند بما يبدو من عود الضمائر إلى أقرب مذكور وهو الرسل، وذلك ليس بمتعيّن، ولم تكن عائشة قد بلغتْها رواية: {كذبوا} بالتخفيف.
وتفريع: {فننجي من نشاء} على: {جاءهم نصرنا} لأن نصر الرسل عليهم السلام هو تأييدهم بعقاب الذين كذبوهم بنزول العذاب وهو البأس، فينجي الله الذين آمنوا ولا يردّ البأس عن القوم المجرمين.
والبأس: هو عذاب المجرمين الذي هو نصر للرسل عليهم السلام..
والقوم المجرمون: الذين كذبوا الرسل.
وقرأ الجمهور: {فنُنْجِي} بنونين وتخفيف الجيم وسكون الياء مضارع أنجى.
و{من نشاء} مفعول: {ننجي}.
وقرأه ابن عامر وعاصم: {فنجّي} بنون واحدة مضمومة وتشديد الجيم مكسورة وفتح التحتية على أنه ماضي: {نجّى} المضاعف بني للنائب، وعليه فمن نشاء هو نائب الفاعل، والجمع بين الماضي في: {نجّي} والمضارع في: {نشاء} احتباك تقديره فنُجي من شئنا ممن نجا في القرون السالفة وننجي من نشاء في المستقبل من المكذبين. اهـ.

.قال الشعراوي:

{حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا}
وكلمة: {حتى} [يوسف: 110]
تدل على أن هناك غاية، ومادامتْ هناك غاية فلابُدَّ أن بداية ما قد سبقتْها، ونقول: أكلتُ السمكة حتى رأسها. أي: أن البداية كانت أَكْل السمكة، والنهاية هي رأسها.
والبداية التي تسبق: {استيأس الرسل...} [يوسف: 110]
هي قول الحق: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا نوحي إِلَيْهِمْ...} [يوسف: 109]
ومادام الحقُّ سبحانه قد أرسلهم؛ فهم قد ضَمِنوا النصر، ولكن النصر أبطأ؛ فاستيأس الرسل، وكان هذا الإبطاء مقصودًا من الحق سبحانه؛ لأنه يريد أن يُحمِّل المؤمنين مهمة هداية حركة الحياة في الأرض إلى أن تقوم الساعة، فيجب ألا يضطلع بها إلا المُخْتَبر اختبارًا دقيقًا.
ولابُدَّ أن يمر الرسول الأُسْوة لمَنْ معه ومن يتبعه من بعد بمحن كثيرة، ومَنْ صبر على المِحَن وخرج منها ناجحًا؛ فهو أَهْلٌ لأن يحمل المهمة.
وهو الحق سبحانه القائل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأساء والضراء وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله...} [البقرة: 214]
إذن: لابُدَّ من اختبار يُمحِّص. ونحن في حركة حياتنا نُؤهِّل التلميذ دراسيًا؛ ليتقدم إلى شهادة إتمام الدراسة الابتدائية، ثم نُؤهِّله لِنَيْل شهادة إتمام الدراسة الإعدادية؛ ثم نؤهله لنيل شهادة إتمام الدراسة الثانوية، ثم يلتحق بالجامعة، ويتم اختباره سنويًا إلى أن يتخرج من الجامعة.
وإنْ أراد استكمال دراسته لنيل الماجستير والدكتوراه، فهو يبذل المزيد من الجَهْد.
وكل تلك الرحلة من أجل أن يذهب لتوليّ مسئولية العمل الذي يُسند إليه وهو جدير بها، فما بَالُنا بعملية بَعْث رسول إلى قوم ما؟
لابُدَّ إذن من تمحيصه هو ومَنْ يتبعونه، وكي لا يبقى على العهد إلا المُوقِن تمام اليقين بأن ما يفوته من خير الدنيا؛ سيجد خيرًا افضل منه عند الله في الآخرة.
ولقائل أن يقول: وهل من المعقول أن يستيئس الرسل؟
نقول: فَلنفهم أولًا معنى: {استيأس}؛ وهناك فرق بين يأس واستيأس، فيأس تعني قطع الأمل من شيء. و: {استيأس} تعني: أنه يُلِحّ على قَطع الأمل. أي: أن الأمل لم ينقطع بعد. ومَنْ قطع الأمل هو مَنْ ليس له منفذ إلى الرجاء، ولا ينقطع أمل إنسان إلا إنْ كان مؤمنًا بأسبابه المعزولة عن مُسبِّبه الأعلى.
لكن إذا كان الله قد أعطى له الأسباب، ثم انتهت الأسباب، ولم تَصِلْ به إلى نتيجة، فالمؤمن بالله هو مَنْ يقول: أنا لا تُهمّني الأسباب؛ لأن معي المُسبِّب. ولذلك يقول الحق سبحانه: {... وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون} [يوسف: 87]؛ ولذلك نجد أن أعلى نسبة انتحار إنما تُوجَد بين الملاحدة الكافرين؛ لأنهم لا يملكون رصيدًا إيمانيًا، يجعلهم يؤمنون أن لهم ربًا فوق كل الأسباب؛ وقادر على أن يَخْرِق النواميس.
أما المؤمن فهو يأوي إلى رُكْن شديد، هو قدرة الحق سبحانه مُسبِّب كل الأسباب، والقادر على أن يَخْرِق الأسباب.
ولماذا يستيئس الرسل؟
لأن حرصهم على تعجُّل النصر دفع البعض منهم أن يسأل مثلما سأل المؤمنون: {متى نَصْرُ الله...} [البقرة: 214]
فضلًا عن ظَنِّهم أنهم كُذّبوا، والحق سبحانه يقول هنا: {وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ...} [يوسف: 110]
ومادة الكاف، والذال والباء منها كَذَبَ، وكُذِبَ عليه وكُذِّب. والكذب هو القول المخالف للواقع، والعاقل هو من يُورِد كلامه على ذِهْنه قبل أن ينطق به.
أما فاقد الرشد الذي لا يمتلك القدرة على التدبُّر؛ فينطق الكلام على عَواهِنه؛ ولا يمرر الكلام على ذهنه؛ ولذلك يقال عنه مخرف.
وقد سبق لنا أن شرحنا الصدق، وقلنا: إنه تطابق النسبة الكلامية مع الواقع، والكذب هو ألاَّ تتطابق النسبة الكلامية مع الواقع.
ومَنْ يقول كلامًا يعلم أنه لا يطابق الواقع؛ يقال عنه: إنه مُتعمِّد الكذب، ومَنْ يقول كلامًا بغالبية الظن أنه لا يطابق الواقع، ونقله عن غيره؛ فهو يكذب دون أن يُحسب كَذبه افتراءً، والإنسان الذي يتوخَّى الدِّقة ينقل الكلام منسوبًا إلى مَنْ قاله له؛ فيقول أخبرني فلان فلا يُعَدُّ كاذبًا.
ولذلك أقول دائمًا: يجب أن يُفرِّق العلماء بين كذب المُفْتين، وكذب الخبر؛ وكذب المُخْبر. فالخبر الكاذب مسئول عنه مَنْ تعمَّد الكذب، أما الناقل للخبر مادام قد نسبه إلى مَنْ قاله، فموقفه مختلف.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد لها قراءتين؛ قراءة هي: {وظنوا أنهم قد كُذبوا} أي: حدَّثهم غيرهم كَذِبًا؛ وقراءة ثانية هي: {وظنوا أنهم قد كُذِّبوا} وهي تعني: أنهم قد ظنُّوا أن ما قيل لهم من كلام عن النصر هو كذب.
ولقائل أن يسأل: كيف يظن الرسل ذلك؟
وأقول: إن الرسول حين يطلب من قومه الإيمان؛ يعلم أن ما يُؤكِّد صدق رسالته هو مجيء النصر؛ وتمرُّ عليه بعض من الخواطر خوفًا أن يقول المقاتلون الذين معه: لقد كذب علينا؛ لأن الظن إخبار بالراجح.
ولا يخطر على بال الرسل أن الله سبحانه وتعالى معاذ الله قد كَذَبهم وعده، ولكنهم ظَنُّوا أن النصر سيأتيهم بسرعة؛ وأخذوا بطء مجيء النصر دليلًا على أن النصر لن يأتي.
أو: أنهم خافوا أن يُكذِّبهم الغير.
ولذلك نجد الحق سبحانه يُعْلِم رسله أن النصر سيأتي في الموعد الذي يحدده سبحانه، ولا يعرفه أحد، فسبحانه لا يَعْجَلُ بعجلة العبادة حتى تبلغ الأمور ما أراد.
ويقول سبحانه: {وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا...} [يوسف: 110]
وهكذا يأتي النصر بعد الزلزلة الشديدة؛ فيكون وَقْعه كوقع الماء على ذي الغُلَّة الصَّادي، ولنا أن نتخيل شَوْق العطشان لكوب الماء.
وأيضًا فإن إبطاء النصر يعطي غرورًا للكافرين يجعلهم يتمادون في الغرور، وحين يأتي النصر تتضاعف فرحة المؤمنين بالرسول، وأيضًا يتضاعف غَمُّ الكافرين به.
ومجيء النصر للمؤمنين يقتضي وقوع هزيمة للكافرين؛ لأن تلك هي مشيئة الله الذي يقع بَأْسه وعذابه على الكافرين به. اهـ.

.قال الجصاص في الآيات السابقة:

قَوْله تَعَالَى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}
يَعْنِي: وَكَمْ مِنْ آيَةٍ فِيهِمَا لَا يُفَكِّرُونَ فِيهَا وَلَا يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ.
وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِآيَاتِهِ وَدَلَائِلِهِ وَالْفِكْرِ فِيمَا يَقْتَضِيه مِنْ تَدْبِيرِ مُدَبِّرِهَا الْعَالِمِ بِهَا الْقَادِرِ عَلَيْهَا وَأَنَّهُ لَا يُشْبِهُهَا، وَذَلِكَ فِي تَدْبِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَالرِّيَاحِ وَالْأَشْجَارِ وَالنَّبَاتِ وَالنِّتَاجِ وَالْحَيَوَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ ظَاهِرٌ لِلْحَوَاسِّ وَمُدْرَكٌ بِالْعِيَانِ.
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاَللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاَللَّهِ فِي إقْرَارِهِ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ إلَّا وَهُوَ مُشْرِكٌ بِعِبَادَةِ الْوَثَنِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ مَعَهُمْ شِرْكٌ وَإِيمَانٌ.
وَقِيلَ: مَا يُصَدِّقُونَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ إلَّا وَهُمْ يُشْرِكُونَ الْأَوْثَانَ فِي الْعِبَادَةِ.
وَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَعَ الْيَهُودِيِّ إيمَانًا بِمُوسَى وَكُفْرًا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهَا قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ لَا يَتَنَافَيَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَيَكُونُ فِيهِ كُفْرٌ مِنْ وَجْهٍ وَإِيمَانٌ مِنْ وَجْهٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَى جِهَةِ إطْلَاقِ اسْمِ الْمُؤْمِنِ وَاسْتِحْقَاقِ ثَوَابِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَافِيهِ الْكُفْرُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} قَدْ أَثْبَتَ لَهُمْ الْإِيمَانَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَالْكُفْرَ بِبَعْضٍ آخَرَ فَثَبَتَ بِذَلِكَ جَوَازُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ كُفْرٌ مِنْ وَجْهٍ وَإِيمَانٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَجْتَمِعَ لَهُ صِفَةُ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ لِأَنَّ صِفَةَ مُؤْمِنٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ صِفَةُ مَدْحٍ وَصِفَةَ كَافِرٍ صِفَةُ ذَمٍّ، وَيَتَنَافَى اسْتِحْقَاقُ الصِّفَتَيْنِ مَعًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ.
قَوْله تَعَالَى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي} فِيهِ بَيَانٌ أَنَّهُ مَبْعُوثٌ بِدُعَاءِ النَّاسِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ، كَأَنَّهُ يُبْصِرُهُ بِعَيْنِهِ وَأَنَّ مَنْ اتَّبَعَهُ فَذَلِكَ سَبِيلُهُ فِي الدُّعَاءِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ دُعَاءَ النَّاسِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ.
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِك إلَّا رِجَالًا نُوحِي إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} قِيلَ: مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ دُونَ الْبَوَادِي لِأَنَّ أَهْلَ لِأَمْصَارِ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ وَأَحْرَى بِقَبُولِ النَّاسِ مِنْهُمْ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: لَمْ يَبْعَثْ اللَّهُ نَبِيًّا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ قَطُّ وَلَا مِنْ الْجِنِّ وَلَا مِنْ النِّسَاءِ.
قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} الْيَأْسُ انْقِطَاعُ الطَّمَعِ وَقَوْلُهُ: كُذِبُوا قُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ وَبِالتَّثْقِيلِ، فَإِذَا قُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ كَانَ مَعْنَاهُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ قَالُوا: ظَنَّ الْأُمَمُ أَنَّ الرُّسُلَ كَذَبُوهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوهُمْ بِهِ مِنْ نَصْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ وَهَلَاكِ أَعْدَائِهِمْ.
وَرُوِيَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَبْحَابِ قَالَ: حَدَّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي حُرَّةَ الْجَزَرِيُّ قَالَ: صَنَعْت طَعَامًا فَدَعَوْت نَاسًا مِنْ أَصْحَابِنَا فِيهِمْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَرْسَلْت إلَى الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ فَأَبَى أَنْ يَجِيءَ، فَأَتَيْتُهُ فَلَمْ أَدَعْهُ حَتَّى جَاءَ، قَالَ: فَسَأَلَ فَتًى مِنْ قُرَيْشٍ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ كَيْفَ تَقْرَأُ هَذَا الْحَرْفَ فَإِنِّي إذَا أَتَيْت عَلَيْهِ تَمَنَّيْت أَنِّي لَا أَقْرَأُ هَذِهِ السُّورَةَ: {حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} قَالَ: نَعَمْ، حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ مِنْ قَوْمِهِمْ أَنْ يُصَدِّقُوهُمْ وَظَنَّ الْمُرْسَلُ إلَيْهِمْ أَنَّ الرُّسُلَ كُذِبُوا مُخَفَّفَةً فَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ قَطُّ رَجُلًا يُدْعَى إلَى عِلْمٍ فَيَتَلَكَّأُ، لَوْ رَحَلْت فِي هَذَا إلَى الْيَمَنِ كَانَ قَلِيلًا.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ يَسَارٍ سَأَلَ سَعِيدًا عَنْهُ فَأَجَابَهُ بِذَلِكَ، فَقَامَ إلَيْهِ مُسْلِمٌ فَاعْتَنَقَهُ وَقَالَ: فَرَّجَ اللَّهُ عَنْك كَمَا فَرَّجْت عَنِّي.
وَمَنْ قَرَأَ: {كُذِّبُوا} بِالتَّشْدِيدِ كَانَ مَعْنَاهُ: أَيْقَنُوا أَنَّ الْأُمَمَ قَدْ كَذَّبُوهُمْ فَكَذِبُنَا عَمَّهُمْ حَتَّى لَا يُفْلِحَ أَحَدٌ مِنْهُمْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات:

{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}
لما تقدم من قول يوسف عليه السلام: {توفني مسلمًا} وكان قوله تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} دالًا على أنه حارص على إيمانهم، مجتهد في ذلك، داع إليه، مثابر عليه.
وذكر: {وما تسألهم عليه من أجر} أشار إلى فيهم من ذلك وهو شريعة الإسلام والإيمان، وتوحيد الله.
فقال: قل يا محمد هذا الطريقة والدعوة طريقي التي سلكتها وأنا عليها، ثم فسر تلك السبيل فقال: أدعو إلى الله يعني: لا إلى غيره من ملك أو إنسان أو كوكب أو صنم، إنما دعائي إلى الله وحده.
قال ابن عباس: سبيلي أي دعوتي.
وقال عكرمة: صلاتي، وقال ابن زيد: سنتي، وقال مقاتل والجمهور: ديني.
وقرأ عبد الله: {قل هذا سبيلي} على التذكير.